فصل: عيسى بن ماسة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.ميخائيل بن ماسويه:

متطبب المأمون، وميخائيل هذا هو أخو يوحنا بن ماسويه، قال يوسف بن إبراهيم مولى إبراهيم بن المهدي كان هذا المتطبب لا يمتع بالحديث ولا يحتج في شيء يقوله بحجة، ولا يوافق أحدًا من المتطببين على شيء أحدث من مائتي سنة، فلم يكن يستعمل السكنجبين والورد المربى إلا بالعسل؛ ولا يستعمل الجلاب المتخذ بماء الورد، ولا يتخذه إلا من الورد المسلوق بالماء الحار، ولا يتخذه بالسكر؛ ولا يستعمل شيئًا لم يستعمله الأوائل، ولقد سألته يومًا عن رأيه في الموز فقال لم أر له ذكرًا في كتب الأوائل، وما كانت هذه حاله لم أقدم على أكله ولا على طعامه للناس، وكان المأمون به معجبًا وله على جبرائيل بن بختيشوع مقدماً، حتى كان يدعوه بالكنية أكثر مما يدعوه بالاسم، وكان لا يشرب الأدوية إلا مما تولى تركيبه وإصلاحه له، وكنت أرى جميع المتطببين بمدينة السلام يبجلونه تبجيلًا لم يكونوا يظهرونه لغيره، قال يوسف وحضر في النصف من شوال سنة عشرين ومائتين دار إبراهيم بن المهدي مع جماعة من وجوه المتطببين، وكانت شكلة عليلة فوجه المعتصم المتطببين إليها ليرجعوا إليه بخبرها؛ وقد كانوا صاروا إليها قبل ذلك اليوم بيوم، فنظروا إلى مائها، وجسوا عرقها، وعاودوا النظر في اليوم الثاني في أمرها، فقالوا كلهم إنها أصبحت صالحة، وأنهم لا يشكون في إفراقها، فسبق إلى وهمي أنهم، أو أكثرهم، أحب أن يسر أبا إسحاق بما ذكروا من العافية، فلما نهضوا اتبعتهم فسألت واحدًا واحدًا عما عنده من العلم بحالها فكلهم قال لي مثل مقالته لأبي إسحاق، إلا سلمويه بن بنان فإنه قال لي هي اليوم أصعب حالًا منها أمس، وقال لي ميخائيل قد ظهر أمس بالقرب من قلبها ورم لم نره في يومنا هذا، افترى ذلك الورم ساخ في الأرض أو ارتفع إلى السماء؛ انصرف فأعد لهذه المرأة جهازها فليست تبيت في الأحياء فتوفيت وقت صلاة العشاء الآخرة بعد أن ألقى إلي ميخائيل ما ألقى ساعات عشرًا أو نحوها، قال يوسف وحدثني ميخائيل بن ماسويه أنه لما قدم المأمون بغداد نادم طاهر بن الحسين، فقال له يوماً، وبين أيديهم نبيذ قطربلي يا أبا الطيب هل رأيت مثل هذا الشراب؟ قال نعم، قال مثله في اللون والطعم والرائحة؟ قال نعم، قال أين؟ قال ببوشنج، قال فاحمل إلينا منه، فكتب طاهر إلى وكيله فحمل منه، ورفع الخبر من النهروان إلى المأمون أن لطفًا وافى طاهرًا من بوشنج، فعلم الخبر وتوقع حمل طاهر له فلم يفعل، فقال له المأمون بعد أيام يا أبا الطيب لم يواف النبيذ فيما وافى، فقال أعيذ أمير المؤمنين باللَّه من أن يقيمني مقام خزي وفضيحة، قال ولم؟ قال ذكرت لأمير المؤمنين شرابًا شربته وأنا صعلوك وفي قرية كنت أتمنى أن أملكها، فلما ملكني اللّه يا أمير المؤمنين أكثر مما كنت أتمنى، وحضر ذلك الشراب وجدته فضيحة من الفضائح، قال فاحمل إلينا منه على كل حال، فحمل منه، فأمر أن يصير في الخزانة، ويكتب عليه الطاهري ليمازحه به من إفراط رداءته، فأقام سنتين، واحتاج المأمون إلى أن يتقيأ فقالوا يتقيأ بنبيذ رديء، فقال بعضهم لا يوجد في العراق أردأ من الطاهري وأخرج فوجد مثل القطربلي أو أجود، وإذا هواء العراق قد أصلحه كما يصلح ما نبت وعصر فيه.

.عيسى بن ماسة:

من الأطباء الفضلاء في وقته، وكان أحد المتميزين من أرباب هذه الصناعة، له طريقة حسنة في علاج المرضى، ولعيسى بن ماسة من الكتب كتاب قوى الأغذية، كتاب من لا يحضره طبيب، مسائل في النسل والذرية، كتاب الرؤيا، يخبر فيه بالسبب الذي امتنع به من معالجة الحوامل، وغير ذلك، كتاب في طلوع الكواكب التي ذكرها بقراط، كتاب في الفصد والحجامة، رسالة في استعمال الحمام.

.حنين بن إسحاق:

هو أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي بفتح العين وتخفيف الباء، والعباد بالفتح قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة، والنسبة إليهم عبادي قال الشاعر:
يسقيكها من بني العباد رشا ** منتسب عيده إلى الأحد

وكان حنين بن إسحاق فصيحًا لسنًا بارعًا شاعراً، وأقام مدة في البصرة وكان شيخه في العربية الخليل بن أحمد، ثم بعد ذلك انتقل إلى بغداد واشتغل بصناعة الطب، قال يوسف بن إبراهيم أول ما حصل لحنين بن إسحاق من الاجتهاد والعناية في صناعة الطب هو أن مجلس يوحنا بن ماسويه كان من أعم مجلس يكون في التصدي لتعليم صناعة الطب، وكان يجتمع فيه أصناف أهل الأدب، قال يوسف وذلك أني كنت أعهد حنين بن إسحاق الترجمان يقرأ على يوحنا بن ماسويه كتاب فرق الطب الموسوم باللسان الرومي والسرياني بهراسيس، وكان حنين إذ ذاك صاحب سؤال، وذلك يصعب على يوحنا، وكان يباعده أيضًا من قبله أن حنينا كان من أبناء الصيارفة من أهل الحيرة، وأهل جندي سابور خاصة ومتطببوها ينحرفون عن أهل الحيرة ويكرهون أن يدخل في صناعتهم أبناء التجار، فسأله حنين في بعض الأيام عن بعض ما كان يقرأ عليه مسألة مستفهم لما يقرأ، فحرد يوحنا وقال ما لأهل الحيرة ولتعلم صناعة الطب صر إلى فلان قرابتك حتى يهب لك خمسين درهمًا تشتري منها قفافًا صغارًا بدرهم، وزرنيخًا بثلاثة دراهم، واشتر بالباقي قلوسًا كوفية وقادسية، وزرنخ القادسية في تلك القفاف، واقعد على الطريق، وصح القلوس الجياد للصدقة والنفقة، وبع القلوس فإنه أعود عليك من هذه الصناعة، ثم أمر به فأخرج من داره فخرج حنين باكيًا مكروباً، وغاب عنا حنين فلم نره سنتين، وكان للرشيد جارية رومية يقال لها خرشى، وكانت ذات قدر عنده محلها منه محل الخوازن، وكانت لها أخت أو بنت أخت ربما أتت الرشيد بالكسوة أو بالشيء مما خرشى خازنة عليه، فافتقدها الرشيد في بعض الأوقات وسأل خرشى عنها فأعلمته أنها زوجتها من قرابة لها، فغضب من ذلك وقال كيف أقدمت على تزويج قرابة لك، أصل ابتياعك إياها من مالي فهي مال من مالي، بغير إذني، وأمر سلامًا الأبرش بتعرف أمر من تزوجها وبتأديبه، فتعرف سلام الخبر حتى وقع على الزوج فلم يكلمه حين ظفر به حتى خصاه، فبلي بالخصاء بعد أن علقت الجارية منه، وولدت الجارية عند مخرج الرشيد إلى طوس، وكانت وفاة الرشيد بعد ذلك، فتبنت خرشى ذلك الغلام وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علمًا كانت له فيه رياسة، وهو إسحاق المعروف بابن الخصي، فكنا نجتمع في مجالس أهل الأدب كثيرًا فوجب لذلك حقه وذمامه، واعتل إسحاق بن الخصي علة فأتيته عائدًا فإني لفي منزله إذ بصرت بإنسان له شعرة قد جللته وقد ستر وجهه عني ببعضها، وهو يتردد وينشد شعرًا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء الروم، فشبهت نغمته بنغمة حنين.
وكان العهد بحنين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين، فقلت لإسحاق بن الخصي هذا حنين، فأنكر ذلك إنكارًا يشبه الإقرار؛ فهتفت بحنين فاستجاب لي، وقال ذكر ابن رسالة الفاعلة إنه من المحال أن يتعلم الطب عبادي، وهو بريء من دين النصرانية إنه رضي أن يتعلم الطب حتى يحكم اللسان اليوناني إحكامًا لا يكون في دهره من يحكمه إحكامه، وما اطلع علي أحد غير أخي هذا، ولو علمت أنك تفهمني لاستترت عنك، لكني عملت على أن حيلتي قد تغيرت في عينك وأنا أسألك أن تستر أمري، فبقيت أكثر من ثلاث سنين وإني لأظنها أربعًا لم أره، ثم إني دخلت يومًا على جبرائيل بن بختيشوع، وقد انحدر من معسكر المأمون قبل وفاته بمدة يسيرة، فوجدت عنده حنينًا وقد ترجم له أقسامًا قسمها بعض الروم في كتاب من كتب جالينوس في التشريح، وهو يخاطبه بالتبجيل ويقول له يا ربن حنين وتفسيره ابن المعلم، فأعظمت ما رأيت، وتبين ذلك جبرائيل في فقال لي لا تستكثرن ما ترى من تبجيلي في هذا الفتى، فواللّه لئن مد له في العمر ليفضحن سرجس وسرجس هذا الذي ذكره جبرائيل هو الرأس عيني، وهو أول ما نقل شيئًا من علوم الروم إلى اللسان السرياني وليفضحن غيره من المترجمين، وخرج من عنده حنين وأقمت طويلاً، ثم خرجت فوجدت حنينًا ببابه ينتظر خروجي، فسلم علي وقال لي قد كنت سألتك ستر خبري، والآن فأنا أسألك إظهاره، وإظهار ما سمعت من أبي عيسى وقوله في فقلت له أنا مسود وجه يوحنا بما سمعت من مدح أبي عيسى لك، فأخرج من كمه نسخة ما كان دفعه إلى جبرائيل وقال لي تمام سواد وجه يوحنا يكون بدفعك إليه هذه النسخة، وسترك عنه علم من نقلها، فإذا رأيته قد اشتد عجبه بها أعلمه أنه إخراجي، ففعلت ذلك من يومي، وقبل انتهائي إلى منزلي، فلما قرأ يوحنا تلك الفصول، وهي التي تسميها اليونان الفاعلات، كثر تعجبه وقال أترى المسيح أوحى في دهرنا هذا إلى أحد؟ فقلت له في جواب قوله ما أوحى في هذا الدهر ولا في غيره إلى أحد، ولا كان المسيح إلا أحد من يوحى إليه، فقال لي دعني من هذا القول، ليس هذا الإخراج إلا إخراج مؤيد بروح القدس، فقلت له هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته من منزلك وأمرته أن يشتري قلوساً، فحلف بأن ما قلت له محال، ثم صدق القول بعد ذلك وأفضل عليه إفضالًا كثيراً، وأحسن إليه ولم يزل مبجلًا له حتى فارقت العراق في سنة خمس وعشرين ومائتين، هذا جملة ما ذكره يوسف بن إبراهيم.
أقول ثم إن حنينًا لازم يوحنا بن ماسويه منذ ذلك الوقت وتتلمذ له واشتغل عليه بصناعة الطب، ونقل حنين لابن ماسويه كتبًا كثيرة وخصوصًا من كتب جالينوس، بعضها إلى اللغة السريانية وبعضها إلى العربية، وكان حنين أعلم أهل زمانه باللغة اليونانية والسريانية والفارسية والدراية فيهم، مما لا يعرفه غيره من النقلة الذين كانوا في زمانه، مع ما دأب أيضًا في إتقان العربية والإشتغال بها حتى صار من جملة المتميزين فيها، ولما رأى المأمون المنام الذي أخبر به أنه رأى في منامه كأن شيخًا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب ويقول أنا أرسطوطاليس انتبه من منامه وسأل عن أرسطو طاليس فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن إسحاق إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية، وبذل له من الأموال والعطايا شيئًا كثيراً، ونقلت من خط الحسن بن العباس المعروف بالصناديقي رحمه اللّه قال قال أبو سليمان سمعت يحيى بن عدي يقول قال المأمون رأيت فيما يرى النائم كأن رجلًا على كرسي جالسًا في المجلس الذي أجلس فيه؛ فتعاظمته وتهيبته وسألت عنه، فقيل هو أرسطوطاليس، فقلت أسأله عن شيء فسألته، فقلت ما الحسن؟ فقال ما استحسنته العقول، فقلت ثم ماذا؟ قال ما استحسنته الشريعة، قلت ثم ماذا؟ قال ما استحسنه الجمهور، قلت ثم ماذا قال ثم لا ثم، فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلمًا صاحب بيت الحكمة، وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل، وقد قيل أن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلد الروم، وأحضر المأمون أيضًا حنين بن إسحاق وكان فتي السن، وأمره بنقل ما يقدرعليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربي وإصلاح ما ينقله غيره فامتثل أمره.
ومما يحكى عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مثلًا بمثل وقال أبو سليمان المنطقي السجتاني إن بني شاكر وهم محمد وأحمد والحسن، كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن إسحاق، وحبيش بن الحسن، وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة، وقال حنين بن إسحاق، إنه سافر إلى بلاد كثيرة، ووصل إلى أقصى بلاد الروم لطلب الكتب التي قصد نقلها، وقال محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست سمعت إسحاق بن شهرام يحدث في مجلس عام أن ببلد الروم هيكلًا قديم البناء عليه باب لم ير قط أعظم منه بمصراعين من حديد، كان اليونانيون في القديم عند عبادتهم الكواكب والأصنام يعظمونه ويدعون فيه، قال فسألت ملك الروم أن يفتحه لي فامتنع من ذلك لأنه أغلق منذ وقت تنصرت الروم، فلم أزل أراسله وأسأله شفاهًا عن حضوري مجلسه فتقدم بفتحه، فإذا ذلك البيت من المرمر والصخور العظام ألواناً، وعليه من الكتابات والنقوش ما لم أسمع بمثله كثرة وحسناً، وفي هذا الهيكل من الكتب القديمة ما يحمل على عدة أجمال، وكثر ذلك حتى قال ألف جمل بعض ذلك قد أخلق، وبعضه على حاله، وبعضه قد أكلته الأرضة، قال ورأيت فيه من آلات القرابين من الذهب وغيره أشياء ظريفة، قال وأغلق الباب بعد خروجي وامتن علي بما فعل معي، وذلك كان في أيام سيف الدولة بن حمدان وزعم أن البيت على ثلاثة أيام من القسطنطينية، والمجاورون لذلك البيت قوم من الصابئة والكلدانيين، وقد أقرتهم الروم على مذاهبهم، وتأخذ منهم الجزية، أقول وكان كاتب حنين رجل يعرف بالأزرق، وقد رأيت أشياء كثيرة من كتب جالينوس وغيره بخطه وبعضها عليه تنكيت بخط حنين بن إسحاق باليوناني، وعلى تلك الكتب علامة المأمون، وقال عبيد اللّه بن جبرائيل بن بختيشوع في مناقب الأطباء إن حنينًا لما قوي أمره، وانتشر ذكره بين الأطباء، واتصل خبره بالخليفة أمر بإحضاره، فلما حضر أقطع إقطاعات حسنة، وقرر له جار جيد، وكان يشعره بزبور الروم، وكان الخليفة يسمع بعلمه ولا يأخذ بقوله دواء يصفه حتى يشاور فيه غيره، وأحب امتحانه حتى يزول ما في نفسه عليه ظنًا منه أن ملك الروم ربما كان عمل شيئًا من الحيلة به، فاستدعاه يومًا وأمر بأن يخلع عليه، وأحضر توقيعًا فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، فشكر له حنين هذا الفعل، ثم قال، بعد أشياء جرت أريد أن تصف لي دواء يقتل عدوًا نريد قتله، ولم يمكن إشهاره، ونريده سراً، فقال حنين يا أمير المؤمنين إني لم أتعلم إلا الأدوية النافعة، وما علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت ذلك، فقال هذا شيء يطول، ورغبه وهدده وهو لا يزيد على ما قاله إلى أن أمر بحبسه في بعض القلاع، ووكل به من يوصل خبره إليه، وقتًا بوقت ويومًا بيوم، فمكث سنة في حبسه دأبه النقل والتفسير والتصنيف، وهو غير مكترث بما هو فيه، فلما كان بعد سنة أمر الخليفة بإحضاره، وإحضار أموال يرغبه فيها، وأحضر سيفًا ونطعًا وسائر آلات العقوبات، فلما حضر قال هذا شيء قد كان، ولا بد ما قلته لك، فإن أنت فعلت فقد فزت بهذا المال وكان لك عندي أضعافه، وإن امتنعت قابلتك بشر مقابلة وقتلتك شر قتلة، فقال حنين قد قلت لأمير المؤمنين إني لم أحسن إلا الشيء النافع، ولم أتعلم غيره، فقال الخليفة فإني أقتلك، قال حنين لي رب يأخذ بحقي غدًا في الموقف الأعظم، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل فتبسم الخليفة وقال له يا حنين، طب نفساً، وثق إلينا، فهذا الفعل كان منا لامتحانك، لأنا حذرنا من كيد الملوك، وإعجابنا لننتفع بعلمك، فقبل حنين الأرض وشكر له فقال له الخليفة يا حنين ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالين؟ فقال حنين شيئان يا أمير المؤمنين، قال وما هما؟ قال الدين والصناعة، قال فكيف؟ قال الدين يأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا فكيف أصحابنا وأصدقائنا، ويبعد ويحرم من لم يكن كذا، والصناعة تمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم، ومع هذا فقد جعل اللّه في رقاب الأطباء عهدًا مؤكدًا بأيمان مغلظة أن لا يعطوا دواء قتالاً، ولا ما يؤذي، فلم أر أن أخالف هذين الأمرين من الشريعتين، ووطنت نفسي على القتل فإن اللّه ما كان يضيع من بذل نفسه في طاعته، وكان يثيبني، فقال الخليفة إنهما لشريعتان جليلتان، وأمر بالخلع فخلعت عليه، وحمل المال بين يديه، وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالًا وجاهاً، أقول وكان لحنين ولدان داؤد وإسحاق، وصنف لهما كتبًا طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتبًا كثيرة من كتب جالينوس، فأما داؤد فإني لم أجد له شهرة بنفسه بين الأطباء، ولا يوجد له من الكتب ما يدل على براعته وعلمه، وإن كان الذي يوجد له إنما هو كناش واحد، وأما إسحاق فإنه اشتهر وتميز في صناعة الطب، وله تصانيف كثيرة، ونقل إسحاق من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتبًا كثيرة، إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية، مثل كتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء. في طاعته، وكان يثيبني، فقال الخليفة إنهما لشريعتان جليلتان، وأمر بالخلع فخلعت عليه، وحمل المال بين يديه، وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالًا وجاهاً، أقول وكان لحنين ولدان داؤد وإسحاق، وصنف لهما كتبًا طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتبًا كثيرة من كتب جالينوس، فأما داؤد فإني لم أجد له شهرة بنفسه بين الأطباء، ولا يوجد له من الكتب ما يدل على براعته وعلمه، وإن كان الذي يوجد له إنما هو كناش واحد، وأما إسحاق فإنه اشتهر وتميز في صناعة الطب، وله تصانيف كثيرة، ونقل إسحاق من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتبًا كثيرة، إلا أن جل عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الحكمية، مثل كتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء.
وأما حنين، أبوه، فكان مهتمًا بنقل الكتب الطبية وخصوصًا كتب جالينوس حتى أنه في غالب الأمر لا يوجد شيء من كتب جالينوس إلا وهي بنقل حنين أو بإصلاحه لما نقل غيره، فإن رؤي شيء منها وقد تفرد بنقله غيره من النقلة مثل اسطاث وابن بكس والبطريق وأبي سعيد عثمان الدمشقي وغيرهم، فإنه لا يعنى به، ولا يرغب فيه، كما يكون بنقل حنين وإصلاحه، وإنما ذلك لفصاحته وبلاغته، ولمعرفته أيضًا بآراء جالينوس، ولتمهره فيها، ووجدت بعض الكتب الست عشرة لجالينوس، وقد نقلها من الرومية إلى السريانية سرجس المتطبب، ونقلها من السريانية إلى العربية موسى بن خالد الترجمان فلما طالعتها وتأملت ألفاظها تبين لي بين نقلها وبين الست عشرة التي هي نقل حنين تباين كثير وتفاوت بين، وأين الألكن من البليغ، والثرى من الثريا، وكان حنين أيضًا ماهرًا في صناعة الكحل وله تصانيف مشهورة بالجودة فيها، وحدثني الشيخ شهاب الدين عبد الحق الصقلي النحوي إن حنين بن إسحاق كان يشتغل في العربية مع سيبويه وغيره ممن كانوا يشتغلون على الخليل بن أحمد، وهذا لا يبعد، فإنهما كانا في وقت واحد على زمان المأمون، وإننا نجد في كلامه وفي نقله ما يدل على فصاحته وفضله في العربية وعلمه بها، حتى أن له تصانيف في ذلك، وقال سليمان بن حسان إن حنينًا نهض من بغداد إلى أرض فارس، وكان الخليل بن أحمد النحوي بأرض فارس، فلزمه حنين حتى برع في لسان العرب، وأدخل كتاب العين بغداد، ثم اختير للترجمة واؤتمن عليها، وكان المتخير له المتوكل على اللّه، ووضع له كتَّابًا نحارير عالمين بالترجمة، وكانوا يترجمون ويتصفح ما ترجموا، كاصطفن بن بسيل، وموسى بن خالد الترجمان، قال وخدم حنين بالطب المتوكل على اللّه وحظيفي أيامه، وكان يلبس زناراً، وتعلم لسان اليونانيين بالاسكندرية، وكان جليلًا في ترجمته، وهو الذي أوضح معاني كتب أبقراط وجالينوس ولخصها أحسن تلخيص، وكشف ما استغلق منها، وأوضح مشكلها، وله تواليف نافعة مثقفة بارعة، وعمد إلى كتب جالينوس فاحتذى فيها حذو الاسكندرانيين، وصنعها على سبيل المسألة والجواب فأحسن في ذلك، وقال حنين بن إسحاق عن نفسه، إن جميع ما قد كان يملكه من الكتب ذهب حتى لم يبق عنده منها ولا كتاب واحد، ذكر ذلك في مقالته في فهرست كتب جالينوس، وقال أبو علي القباني كان حنين في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام فيصب عليه الماء، ويخرج فيلتف بقطيفة وقد أعد له هناب من فضة فيه رطل شراب وكعكة مثرودة فيأكلها ويشرب الشراب ويطرح نفسه حتى يستوفي عرقه، وربما نام ثم يقوم ويتبخر ويقدم له طعامه وهو فروج كبير مسمن وقد طبخ زيرباجه، ورغيف فيه مائتا درهم، فيحسو من المرق ثم يأكل الفروج والخبز وينام، فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شرابًا عتيقاً، ولم يذق غير هذا طول عمره، فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي والرمان والسفرجل، وقال أحمد بن الطيب السرخسي في كتاب اللهو والملاهي، قال حنين المتطبب وافاني في بعض الليالي، أيام المتوكل، رسل من دارالخليفة يطلبوني ويقولون الخليفة يريدك، ثم وافت بعدهم طائفة، ثم وافاني زرافة فأخرجني من فراشي ومضى بي ركضًا حتى أدخلني إلى الخليفة، فقال يا سيدي هوذا حنين، قال فقال ادفعوا إلى زرافة ما ضمنا له، قال فدفع إليه ثلاثون ألف درهم، ثم أقبل علي فقال أنا جائع فما ترى في العشاء؟ فقلت له في ذلك قولاً، فلما فرغ من أكله سألت عن الخبر، فقيل لي أن مغنيًا غناه صوتاً، فسأله لمن هو؟ فقال لحنين بن بلوع العبادي، فأمر زرافة بإحضار حنين بن بلوع العبادي، فقال له يا أمير المؤمنين لا أعرفه، فقال لا بد منه، وإن أحضرته فلك ثلاثون ألف درهم، قال فأحضرني، ونسي المتوكل السبب بما كان في رأسه من النبيذ، وحضرت وقد جاع فأشرت عليه بأن يقطع النبيذ ويتعشى وينام ففعل، أقول كان مولد حنين في سنة مائة وأربع وتسعين للهجرة، وتوفي في زمان المعتمد على اللّه وذلك في يوم الثلاثاء أول كانون الأول من سنة ألف ومائة وثمان وثمانين للأسكندر، وهو لست خلون من صفر سنة مائتين وأربع وستين للهجرة، وكانت مدة حياته سبعين سنة، وقيل إنه مات بالذرب.
وقال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل إن حنين بن إسحاق مات بالغم من ليلته في أيام المتوكل، قال حدثني بذلك وزير أمير المؤمنين الحكم المستنصر باللّه قال، قال كنت مع أمير المؤمنين المستنصر فجرى الحديث فقال أتعلمون كيف كان موت حنين بن إسحاق؟ قلنا لا يا أمير المؤمنين، قال خرج المتوكل على اللّه يومًا وبه خمار فقعد في مقعده فأخذته الشمس، وكان بين يديه الطيفوري النصراني الطبيب وحنين بن إسحاق، فقال له الطيفوري يا أمير المؤمنين الشمس تضر بالخمار، فقال المتوكل لحنين ما عندك فيما قال؟ فقال حنين يا أمير المؤمنين لا تضر بالخمار، فلما تناقضا بين يديه طلب كشفهما عن صحة أحد القولين، فقال حنين يا أمير المؤمنين الخمار حال للمخمور، والشمس لا تضر بالخمار إنما تضر المخمور، فقال المتوكل لقد أحرز من طبائع الالفاظ وتحديد المعاني ما فاق به نظراءه، فوجم لها الطيفوري، فلما كان في غد ذلك اليوم أخرج حنين من كمه كتابًا فيه صورة المسيح مصلوباً، وصور ناس حوله فقال له الطيفوري يا حنين هؤلاء صلبوا المسيح؟ قال نعم فقال له ابصق عليهم، قال حنين لا أفعل، قال الطيفوري ولم؟ قال لأنهم ليسوا الذين صلبوا المسيح إنما هي صور، فاشتد ذلك على الطيفوري ورفعه إلى المتوكل يسأله إباحة الحكم عليه بديانة النصرانية، فبعث إلى الجاثليق والأساقفة وسئلوا عن ذلك، فأوجبوا اللعنة على حنين، فلعن سبعين لعنة بحضرة الملأ من النصارى، وقطع زناره، وأمر المتوكل أن لا يصل إليه دواء من قبل حنين حتى يستشرف على عمله الطيفوري، وانصرف حنين إلى داره فمات من ليلته، فيقال مات غمًا وأسفاً، أقول هذه حكاية ابن جلجل، وكذلك أيضًا وجدت أحمد بن يوسف بن إبراهيم قد ذكر في رسالته في المكافأة ما يناسب هذه الحكاية عن حنين، والأصح في ذلك أن بختيشوع بن جبرائيل كان يعادي حنين بن إسحاق ويحسده على علمه وفضله، وما هو عليه من جودة النقل، وعلو المنزلة، فاحتال عليه بخديعة عند المتوكل وتم مكره عليه حتى أوقع المتوكل به وحبسه، ثم إن اللّه تعالى فرج عنه وظهر ما كان احتال به عليه بختيشوع بن جبرائيل؛ وصار حنين حظيًّا عند المتوكل وفضله على بختيشوع وعلى غيره من سائر المتطببين، ولم يزل على ذلك في أيام المتوكل إلى أن مرض حنين فيما بعد المرض الذي توفي فيه، وذلك في سنة أربع وستين ومائتين، وتبين لي جملة ما يحكى عن حنين من ذلك، وصح عندي من رسالة، وجدت حنين بن إسحاق قد ألفها فيما أصابه من المحن والشدائد من الذين ناصبوه العداوة من أشرار أطباء زمانه المشهورين، وهذا نص قوله، قال حنين بن إسحاق إنه لحقني من أعدائي ومضطهدي الكافرين بنعمتي الجاحدين لحقي، الظالمين لي، المتعدين علي من المحن والمصائب والشرور ما منعني من النوم وأسهر عيني وأشغلني عن مهماتي، وكل ذلك من الحسد لي على علمي وما وهبه اللّه، عزّ وجلّ، لي من علو المرتبة على أهل زماني، وأكثر أولئك أهلي وأقربائي، فإنهم أول شروري، وابتداء محني، ثم من بعدهم الذين علمتهم وأقرأتهم وأحسنت إليهم وأرقدتهم وفضلتهم على جماعة أهل البلد من أهل الصناعة، وقربت إليهم علوم الفاضل جالينوس، فكافؤوني عوض المحاسن مساوئ بحسب ما أوجبته طباعهم، وبلغوا بي إلى أقبح ما يكون من إذاعة أوحش الأخبار، وكتمان جليل الأسرار، حتى ساءت بي الظنون، وامتدت إلي العيون، ووضع علي الرصد حتى أنه كان يحصى علي ألفاظي، ويكثر اتهامي، بما دق منها مما ليس غرض فيه، ما أومأوا إليه، فأوقعوا بغضتي في نفوس سائر أهل الملل فضلًا عن أهل مذهبي، وعملت لي المجالس بالتأويلات الرذلة.
ولما اتصل ذلك بي حمدت اللّه حمدًا جديداً، وصبرت على ما قد دفعت إليه، فآلت القضية بي إلى أن بقيت بأسوأ ما يكون من الحال من الإضاقة والضر، محبوسًا مضيقًا علي مدة من الزمان لا تصل يدي إلى شيء من ذهب ولا فضة ولا كتاب، وبالجملة ولا ورقة أنظر فيها، ثم إن اللّه عزّ وجلّ نظر إليّ بعين رحمته، فجدد لي نعمه وردني إلى ما كنت عارفًا به من فضله، وكان سبب رد نعمتي إلي بعض من كان قد التزم عداوتي واختص بها، ومن ها هنا صح ما قاله جالينوس إن الأخيار من الناس قد ينتفعون بأعدائهم الأشرار فلعمري لقد كان ذلك أفضل الأعداء، وأنا الآن مبتدئ بذكر ما جرى علي مما تقدم ذكره فأقول كيف لا أبغض ويكثر حاسدي، ويكثر ثلبي في مجالس ذوي المراتب؛ ويبذل في قتلي الأموال؛ ويعز من شتمني، ويهان من أكرمني؛ كل ذلك بغير جرم لي إلى واحد منهم ولا جناية، لكنهم لما رأوني فوقهم، وعاليًا عليهم بالعلم والعمل، ونقلي إليهم العلوم الفاخرة من اللغات التي لا يحسنونها ولا يهتدون إليها ولا يعرفون شيئًا منها، في نهاية ما يكون من حسن العبارة والفصاحة، ولا نقص فيها ولا زلل، ولا ميل لأحد من الملل، ولا استغلاق ولا لحن، باعتبار أصحاب البلاغة من العرب الذين يقومون بمعرفة وجوه النحو والغريب، ولا يعثرون على سيئة ولا شكلة ولا معنى، لكن بأعذب ما يكون عن اللفظ، وأقربه إلى الفهم، يسمعه من ليس صناعته الطب، ولا يعرف شيئًا من طرقات الفلسفة، ولا من ينتحل ديانة النصرانية وكل الملل، فيستحسنه ويعرف قدره، حتى إنهم قد يغرمون علي ما كان من الذي أنقل الأموال الكثيرة إذا كانوا يفضلون هذ النقل على نقل كل من قبلي، وأيضًا فأقول ولا أخطئ أن سائر أهل الأدب، وإن اختلفت مللهم، محبون لي، مائلون إلي، مكرمون لي، يأخذون ما أفيدهم بشكر، ويجازوني بكل ما يصلون إليه من الجميل، فأما هؤلاء الأطباء النصارى الذين أكثرهم تعلموا بين يدي، نشأوا قدامي هم الذين يرومون سفك دمي على أنهم لا بد لهم مني، فمرة يقولون من هو حنين؟ إنما حنين ناقل لهذه الكتب ليأخذ على نقله الأجرة كما يأخذ الصناع الأجرة على صناعتهم، ولا فرق عندنا بينه وبينهم؛ لأن الفارس قد يعمل له الحداد بالسيف في المثل بدينار، ويأخذ هو من أجله في كل شهر مائة دينار، فهو خادم لأدائنا، وليس هو عامل بها، كما أن الحداد، وإن كان يحسن صنعة السيف، إلا أنه ليس يحسن يعمل به، فما للحداد وطلب الفروسية كذلك هذا الناقل، ماله والكلام في صناعة الطب ولم يحكم في عللها وأمراضها، وإنما قصده في ذلك التشبيه بنا ليقال حنين الطبيب، ولا يقال حنين الناقل، والأجود له لو أنه لزم صناعته، وأمسك عن ذكر صناعتنا؛ لقد كان يكون أجدى عليه فيما كنا سنوصله إليه من أموالنا، ونحسن إليه ما أمكننا، وذلك يتم له بترك أخذ المجلس، والنظر في قوارير الماء، ووصف الأدوية، ويقولون إن حنينًا ما يدخل إلى موضع من الدور الخاصة والعامة إلا يهزؤون به، ويتضاحكون منه عند خروجه، فكنت كلما سمعت شيئًا من هذا ضاق به صدري، وهممت أن أقتل نفسي من الغيظ والزرد، وما كان لي إليهم سبيل، إذ كان الواحد لا يستوي له مقاومة الجامعة عند تظافرهم عليه، لكني كنت أضمر وأعلم أن حسدهم هو الذي يدعوهم إلى سائر الأشياء، وإن كان لا يخفى عليهم قبحها، فإن الحسد لم يزل بين الناس على قديم الأيام، حتى من يعتقد الديانة قد يعلم أن أول حاسد كان في الأرض قابيل في قتله لأخيه هابيل، لما لم يقبل اللّه قربانه وقبل قربان هابيل، وما لم يزل قديمًا فليس بعجب أن أكون أنا أيضًا أحد من يؤذى بسببه، وقد يقال كفى بالحاسد حسده ويقال إن الحاسد يقتل نفسه قبل عدوه، ولقد أكثرت العرب ذكر الحسد في الشعر ونظموا فيه الأبيات، منها قول بعضهم:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهم ** ومات أكثرنا غيظًا بما يجد

أنا الذي يجدوني في صدورهم ** لا أرتقي صعدًا منها ولا أرد

وقد قال قائل هذا وغيره في مثل هذا مما يطول ذكره، مع قلة الفائدة فيه، وهذا أيضًا مع أن أكثرهم إذا دهمهم الأمر في مرض صعب فإليّ يصير، حتى يتحقق معرفته مني، ويأخذ عني له صفة دوائه وتدبيره، ويتبين الصلاح فيما أُمر به أن يعمل لا مرة ولا مراراً، وهذا الذي يجيئني ويقتدي برأيي هو أشد الناس علي غيظاَ، وأكثرهم لي ثلباً، وليس أزيدهم على أن أحكم رب الكل بيني وبينهم، وإنما سكوتي عنهم لأنهم ليس هم واحدًا ولا اثنين ولا ثلاثة، بل هم ستة وخمسون رجلًا جملتهم من أهل المذهب، محتاجون إلي وأنا غير محتاج إليهم، وأيضًا فإن إثرتهم مع كثرتهم قوية بخدمة الخلفاء وهم أصحاب المملكة وأنا فأضعف عنهم من وجهين أحدهما وحدتي، والثانية إن الذين يعنون بي من الناس محتاجون إلى الأصل الذي يعنى بأعدائي الذي هو أمير المؤمنين، ومع هذا كله لا أشكو إلى أحد ما أنا عليه وإن كان عظيماً، بل أبوح بشكرهم في المحافل وعند الرؤساء، فإن قيل لي إنهم يثلبونك وينتقصون بك في مجالسهم، أدفع ذلك وأرى أني غير مصدق شيء مما يقال لي، بل أقول إنا نحن شيء واحد تجمعنا الديانة والبلدة والصناعة، فما أصدق أن مثلهم يذكر أحدًا من الناس فضلاًعني بسوء، فإذا سمعوا عني مثل هذا القول قالوا قد جزع وأعطى من نفسه الصمة، وكلما ثلبوني زدت في الشكر لهم، وأنا الآن ذاكر ها هنا آخر الآبار التي حفروها لي، سوى ما كان لي معهم قديمًا خاصة مع بني موسى والجالينوسيين والبقراطيين في أمر البهت الأول، وهذه قصة المحنة الأخيرة القريبة، وهي أن بختيشوع بن جبرائيل المتطبب عمل على حيلة تمت له علي، وأمكنته مني إرادته في، وذلك أنه استعمل قونة، عليها صورة السيدة مار مريم، وفي حجرها سيدنا المسيح والملائكة قد احتاطوا بهما وعملها في غاية ما يكون من الحسن وصحة الصورة بعد أن غرم عليها من المال شيئًا كثيراً، ثم حملها إلى أمير المؤمنين المتوكل، وكان هو المستقبل لها من يد الخادم الحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جدًّا، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مرارًا كثيرة، فقال له المتوكل لم تقبلها؟ فقال له يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟ فقال له المتوكل وكل النصارى هكذا يفعلون؟ فقال نعم يا أمير المؤمنين، وأفضل مني، لأني أنا قصرت حيث أنا بين يديك، ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلًا في خدمتك وإفضالك وأرزاقك جارية عليه من النصارى يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد، لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل، فقال له المتوكل من هذا الذي هذه صفته؟ فقال له حنين المترجم، فقال المتوكل أوجه أحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت، نكلت به وخلدته المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه، وتجديد العذاب، فقال، أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره، فقال إني أفعل ذلك، فخرج بختيشوع من الدار وجاءني، فقال يا أبا زيد، أعزك اللّه، ينبغي أن تعلم أنه قد أهدي إلى أمير المؤمنين قونة قد عظم عجبه بها، وأحسبها من صور الشام، وقد استحسنها جدًّا، وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه تولع بنا بها في كل وقت، وقال هذا ربكم وأمه مصورين، وقد قال لي أمير المؤمنين انظر إلى هذه الصورة ما أحسنها، وايش تقول فيها؟ فقلت له صورة مثلها يكون في الحمامات، وفي البيع وفي المواضع المصورة، وهذا مما لا نبالي به ولا نلتفت إليه، فقال وليس هي عندك شيء؟ قلت لا قال فإن تكن صادقًا فابصق عليها، فبصقت، وخرجت من عنده وهو يضحك ويعطعط بي، وإنما فعلت ذلك ليرمي بها ولا يكثر الولع بنا بسببها، ويميزنا دائماً، ولا سيما إن حرد أحد من ذلك، فإن الولع يكون أزيد، والصواب إن دعا بك وسألك عن مثل ما سألني أن تفعل كما فعلت أنا، فإني قد عملت على لقاء سائر من يدخل إليه من أصحابنا، وأتقدم إليهم أن يفعلوا مثل ذلك، فقبلت ما وصاني به، وجازت علي سخريته، وانصرف، فما كان إلا ساعة حتى جاءني رسول أمير المؤمنين فأخذني إليه، فلما دخلت عليه إذ القونة موضوعة بين يديه فقال لي يا حنين ترى ما أحسن هذه الصورة وأعجبها؟ فقلت واللّه إنه لكما ذكر أمير المؤمنين فقال فأيش تقول فيها؟ فقال أو ليس هي صورة ربكم وأمه؟ فقلت معاذ اللّه يا أمير المؤمنين إن للّه تعالى صورة أو يصور؟ ولكن هذا مثال في سائر المواضع التي فيها الصور، فقال فهذه لا تنفع ولا تضر، فقلت هو كذلك يا أمير المؤمنين فقال فإن كان الأمرعلى ما ذكرت، فابصق عليها، فبصقت عليها فللوقت أمر بحبسي، ووجه إلى ثوذسيس الجاثليق فأحضره، فلما دخل عليه ورأى القونة موضوعة بين يديه وقع عليها، قبل أن يدعو له، فاعتنقها ولم يزل يقبلها ويبكي طويلاً، فذهب الخدم ليمنعوه فأمر بتركه، فلما قبلها طويلًا على تيك الحالة أخذها بيده وقام قائماً، فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فرد عليه وأمره بالجلوس، فجلس وترك القونة في حجره.ر
صفحة البداية الفهرس << السابق 30  من  91 التالى >> إخفاء التشكيل